سورة الأعراف - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}
{وَقَطَّعْنَاهُمُ} يعني بني إسرائيل {اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} روى أبان بن يزيد العطار عن عاصم: وقطعناهم بالتخفيف وأراد بالأسباط القبائل والفرق ولذلك أنشأ العدد والأسباط جمع مذكر.
قال الشاعر:
وإن قريشاً كلّها عشر أبطن *** وأنت بريءٌ من قبائلها العشر
فذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة فلذلك كان البطن مذكر وإنما قال: {أسباطاً أُمماً} بالجمع ولا يقال: أتاني اثنا عشر رجالاً، لأنه أراد الأعداد والجموع فأقام كل عدد مقام واحد، وقيل: معناه وقطعناهم أسباطاً أمماً اثني عشر.
{وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ} في التيه {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر} قال عطاء: كان الحجر أربعة وجوه لكل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين لا يُخالطهم سواه {فانبجست} أخصبت وانفجرت.
قال أهل التفسير: انبجست وانفجرت واحد، وكان أبو عمرو بن العلاء يفرق بينهما فيقول انبجست عرفت وانفجرت سالت.
قال عطاء: كان يظهر على كل موضع من الحجر يضربه موسى عليه السلام مثل ثدي المرأة فيعرق أوّلاً ثمّ يسيل {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} من كل سبط {مَّشْرَبَهُمْ} لا يدخل سبط على غيره في شربه وكل سبط من أب واحد. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام} في التيه يقيهم من الشمس {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى} إلى قوله: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم} وقرأ أهل المدينة يغفر بياء مضمومة وخطاياكم بالرفع، وقرأ ابن عامر بتاء مضمومة.


{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}
{وَسْئَلْهُمْ} واسأل يامحمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال تقرير وتوبيخ {عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} أي بقربه وعلى شاطئه، واختلفوا فيها فروى عكرمة عن ابن عباس قال: هي قرية يقال لها ايلديس مدين والطور.
وروى عليّ بن أبي طلحة عنه فقال: هي قرية على شاطئ البحر من مصر والمدينة يقال لها: ايله وقال ابن زيد: هي قرية يقال لها: مقنى بين مدين وعينونا، وقيل: هي الطبريّة {إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت} أي يتجاوزون أمر الله وقرأ أبو نهيك إذ تعدون بضم الياء وكسر العين بتثقيل الدال من الأعداد يريد يهيبون الآلة لأخذها.
وقرأ ابن السميقع: في الاسبات، على جمع السبت {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} قرأ ابن عبد العزيز يوم إسباتهم شرعاً إلى شراع ظاهرة على الماء كثيرة، وقال الضحاك: متتابعة {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} أي لا يفعلون السبت. يقال سبت يسبت سبتاً وسبوتاً إذا أعظم السبت.
وقرأ الحسن: يُسبتون بضم الياء أي يدخلون في السبت كما يقال أجمعنا وأشهرنا أي دخلنا في الجمعة والشهر {لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم} نختبرهم {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن سمعت إبراهيم بن محارب بن إبراهيم سمعت أبي يقول: سألت الحسين بن الفضل هل تجد في كتاب الله الحلال لا يأتيك إلاّ قوتاً والحرام يأتيك جزفاً جزفاً؟ قال: نعم، في قصّة داود وتأويله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ}.
قال عكرمة: جئت ابن عباس يوماً فإذا هو يبكي ووضع المصحف في حجرة فقلت: مايُبكيك جعلني الله فداك. قال: هؤلاء الورقات فإذا هو في سورة الأعراف، فقال: تعرف الآية؟ قلت: نعم، قال: فإنّه كان بها حي من اليهود في زمن داود حرم عليهم الحيتان في السبت، وذلك أنّ اليهود أمروا باليوم الذي أمرتهم به يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلوا به وحرّم عليهم فيه الصيد فأمروا بتعظيمه إن أطاعوا لم يؤجروا وإن عصوا عذبوا، وكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً بيضاء سماناً كأنها الماخض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم حتّى لا يرى الماء من كثرتها ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا كذلك برهة من الدهر.
ثمّ إنّ الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فأتّخذوا الحياض وكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة فتسقي فيها ولا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فيأخذونها يوم الأحد.
وقال ابن زيد: كانوا قد قرّبوا بحب الحيتان وكان في غير يوم السبت لا تأتيهم حوت واحد فأخذ رجل منهم حوتاً فربط في ذنبه خيطاً فأخذه وشواه فوجد جار له ريح الحوت. فقال له: يا فلان أنا أجد في بيتك ريح نون، قال: لا فتطلع في تنوره فإذا هو فيه فقال: إني أرى الله سيعذّبك، فلما لم يره عذب ولم يعجل عليهم بالعذاب أخذ في السبت الأُخرى حوتين اثنين.
فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم أكلوا وملحوا وباعوا وأثروا وكثر مالهم، وكانوا نحواً من سبعين ألف، فصارت أهل القرية ثلاثاً: ثلث نُهوا وكانوا نحواً من اثني عشر ألفاً وثلث قالوا: لِمَ تعظون قوماً الله مهلكهم، وثلث أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا قال المسلمون: لا نسألهم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ولعنهم داود عليه السلام فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس شأناً لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فنظروا فإذا بهم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم وعرفت القردة أنسابها من الأنس. ولا تعرف الأنس أنسابهم من القرود. فجعلت القردة تأتي نسيبها من الأنس وتشم ثيابه وتبكي فيقول: ألم ننهكم؟ فتقول برأسها: نعم.
قال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فما نجا إلاّ الذين نهوا وهلك سائرهم.
واختلف العلماء في الفرقة الذين قالوا: {لِمَ تعظون قوماً} كانت من الناجية أو من الهالكة؟ فقال بعضهم: كانت من الناجية لأنّها كانت من الناهية.
وقال آخرون: كانت من الفرقة الهالكة، لأنّهم كانوا من الخاطئة وذلك أنهم لما نهوا وقالوا لهم انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب فإنّا قد علمنا أن الله تعالى منزل عليكم بأسه إن لم تنتهوا قالوا لهم {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ} إذ علمتم أنّ الله معذبهم {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ} أي هذه معذرة، وقرأ حفص: معذرة أي يفعل ذلك معذرة {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} صيد الحيتان والصواب أنها كانت من الفرقة الناجية وأن هذا الكلام من قول المؤمنين بعضهم لبعض لأنّه لو كان الخطاب للمعتدين لقالوا: ولعلكم تتّقون يدلّ عليه قول يمان بن رئاب نحن الطائفتان اللذان قالوا {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ} والذين قالوا {مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ} فأهلك الله أهل المعصية الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وخنازير.
وقال ابن عباس: ليت شعري ما فعل هؤلاء الذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ} قال عكرمة: فقلت له: جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ} فلم أزل به حتّى عرّفته أنهم قد نجوا فكساني حلّة.
{فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} تركوا ما وعظوا به {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء} أي المعصية {وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} أي عاقبنا باعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرم الله {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} شديد وجيع من البأس وهو الشدة والفعل منه بَؤس يبَئوسُ، فاختلف القراء فيها فقرأ أهل المدينة بِيْس بكسر الباء وجزم الياء من غير همزة على وزن فعل، وقرأ ابن عامر كذلك على وزن فِعْل إلاّ أنّه الهمزة.
وقرأ عاصم: في رواية أبي بكر: بَيْئس بفتح الباء وجزم الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل ويثرب.
كما قال الشاعر:
كلاهما كان رئيساً بيئسا *** يضرب في الهيجاء منه القونسا
وقرأ بعضهم: بَيئِس بفتح الباء وكسر الهمزة على وزن فعل مثل حذر كقول ابن قيس الرقيات:
ليتني ألقى رقيّة في *** خلوة من غير ما بيئس
وقرأ الحسن: بكسر الباء وفتح السين على معنى بيئس العذاب.
وقرأ مجاهد: بايئس على وزن فاعل وقرأ أبو أياس بفتح الباء والياء من غير همزة.
وقرأ نصر بن عاصم: بيئس بفتح الباء وكسر الياء مشدداً من غير همزة.
وقرأ بعض أهل مكة بئيس بكسر الياء والهمزة كما يقال: بعر للبعير. وقال أهل اللغة: كل فعل ثانية أحد حروف الحلق فإنّه يجوز كسر أوّله مثل بِعير وصغير ورحيم وحميم وبخيل، وقرأ الباقون بئيس على وزن فعيل وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأن فعيلاً أشبهه بصفات التعريف كقول ذي الاصبع العدواني:
لقد رأيت بني أبيك *** محمجين إليك شوساً
حنقاً عليّ ولن ترى *** لي فيهم أثراً بئيساً
وقوله: {فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} قال ابن عباس: أبوا أن يرجعوا عن المعصية {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} صاغرين. قال سعيد بن جبير: رأى موسى عليه السلام رجلاً يحمل قصباً يوم السبت فضرب عنقه، أبو روق: الخاسئون الذين لا يتكلّمون.
وقال المؤرخ مبعدين كما بَعُد الكلاب. قال ابن عباس: مكثوا ثلاث أيام ينظر إليهم الناس ثمّ هلكوا ولم يتوالدوا ولم يتناسلوا ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيام.
قال مقاتل: عاشوا سبعة أيام يعرف الكبير بكبره والصغير بصغره، ثمّ ماتوا.
وروى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يمسخ شيئاً فجعل له نسلاً وعاقبه».


{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أذّن وأعلم ربّك مثل قولهم تعلم بمعنى أعلم. وأنشد المبرّد:
تعلم أن خير الناس حي *** ينادي في شعارهم يسار
وقال زهير:
فقلت تعلم أن للصيد غرّة *** فان لا تضيعها فإنّك قاتله
وقال ابن عباس: {تأذن ربّك} قال ربّك، وقال مجاهد: أمر ربّك، وقال عطاء: حتم، وقال أبو عبيد: أخبر، وقال قطرب: وعد.
{لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب} هم اليهود بعث الله عليهم محمداً وأمته يقاتلونهم حتّى يسلموا أو يعطوا الجزية، وقال سعيد بن جبير: هم أهل الكتاب بعث الله عليهم العرب يجبونهم الخراج إلى يوم القيامة فهو سوء العذاب ولم يجب نبي قط الخراج إلاّ موسى عليه السلام فهو أول من وضع الخراج فجباه ثلاث عشرة سنة ثمّ أمسك {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي حضرت وجاء وتبدل من بعد هؤلاء الذين وصفناهم خلف.
قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام الأولاد والواحد والجميع فيه سواء والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غريباً، وقال الآخرون: هم خلف سوء.
وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح وبالجزم الصالح. قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للردئ من الكلام: خلف، ومنه المثل السائر: سكت الفاً وبطن خلفاً.
وقال النضر بن شميل: الخلف بجزم اللام واسكانها في غير القرآن السوء واحد، فأمّا في القرآن الصالح بفتح اللام لا غير، وأنشد:
إنا وجدنا خلفاً بئس الخلف *** عبداً إذا ما ناء بالحمل خضف
وقال محمد بن جرير الطبري: أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح ومن ذلك قول حسان بن ثابت:
لنا القدم الأولى وإليك وخلفنا *** لأولنا في طاعة الله تابع
قال: واحسب أنّه إذا وجّه إلى الفساد مأخوذ من قولهم: خلف اللبن وحمض من طول تركه في السقاء حتى تفسد، ومن قولهم: خلف فم الصائم إذا تغير ريحه وفسد، فكان الرجل الفاسد مشبه به.
{وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى} والعرض متاع الدنيا أجمع. والعرض بسكون الراء ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير.
قال المفسّرون: إن اليهود ورثوا كتاب الله فقرأوه وعلموه وضيعوا العمل به وخالفوا حكمه يرتشون في حكم الله وتبديل كتاب الله وتغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} ذنوبنا ما عملناه بالليل كُفّر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل تمنياً على الله الأباطيل.
{وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}. قال سعيد بن جبير: وإن عرض لهم ذنب آخر عملوه.
وقال مجاهد: ما أشرف لهم في اليوم من شيء من الدنيا الحلال أو حرام يشتهونه أخذوه. وكلما وهف لهم شيء من الدنيا أكلوه وأخذوا من الدنيا، ما وهف أي ما سهل، لا يبالون حلالاً كان أو حراماً ويبتغون في المغفرة فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه.
قال السدي: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلاّ ارتشى في الحكم. وإن خيارهم اجتمعوا فأخذوا منهم بعض العهود أن لا يفعلوا فجعل الرجل منهم إذا استقضى وارتشى يقال له: مالك ترتشي في الحكم، فيقول: سيُغفر لي، فيطعن عليه البقية عَرَض من بني إسرائيل فيما صنع، فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجلاً ممن كان يطعن فيرتشي فيقول وأن يأتي الآخرين عرض مثله يأخذوه ومعناه: وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض مثله يأخذوه كما أخذ أسلافهم. والأدنى تذكير الدنيا وعرض هذه الدار الدنيا فلما ترك الاسم المؤنث ذكر النعت لتذكير اللفظ.
سمعت أبا القاسم الحبيبي قال: سمعت أبا بكر محمد بن عبد [....] يقول فيه تقديم وتأخير أي: يأخذون هذا العرض الأدنى {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} وقرأوا ما فيه، وقرأ السلمي: ادّارسوا أي تدارسوا مثل إذا زكّوا أي قرأ بعضهم بعضاً.
{والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الشرك والحرام {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} بالياء قرأ أكثر القراء على الخبر.
وقرأ الحسن وابن الأشهب بالتاء على الخطاب {والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب} قرأ عمر بن الخطاب وأبو العالية وعاصم ورواية أبي بكر بسكون خفيفة. وقرأ الباقون بسكون التشديد.
قال أبو عبيد وأبو حاتم: لأنه يقال تمسكت بالشيء ولا يقال أمسكت بالشيء: إنما يقال أمسكته ويدل عليه قراءة أُبي ابن كعب {والذين مسكوا الكتاب} على الماضي وهو جيد لقوله: {وأقاموا الصلاة} إذ قال ما يعطف {من} على مستقبل إلاّ في المعنى.
وقرأ الأعمش: {والذين استمسكوا بالكتاب} ومعنى الآية: وأن يعملوا بما في كتاب الله قال مجاهد وابن زيد: هم من اليهود والنصارى الذين يمسكون بالكتاب الذي جاء به موسى فلا يحرفونه ولا يكتمونه أحلّوا حلاله وحرموا حرامه ولم يتخذوه ما كُلُهُ نَزَل في عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال عطاء: فيهم أنّه محمد صلى الله عليه وسلم {وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين}.
{وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} أي قلعنا الجبل.
قال مجاهد: كما ينتق الزبد. وقال المؤرخ: قطعنا.
وقال أبو عبيدة: زعزعنا. وقال الفراء: خلقنا. وقال بعضهم رفعناه. واحتج بقول العجاج:
ينتقن أقتاد الشليل نتقاً ***
يعني يرفعه عن ظهره.
وقال آخر:
ونتّقوا أحلامنا الأثاقلا ***
وقال بعضهم: أصل النتق والنتوق أن يقلع الشيء من موضعه فيرمى. قال أبان بن تغلب: سمعت رجلاً من العرب يقول لغلامه: فخذ الحجر ألقه فانتقه أي نكسه وانثره.
ويقال للمرأة الكثيرة الولد: ناتق ومنتاق لأنها ترمي صدرها رمياً قال النابغة:
لم يحرموا حسن الغذاء وأُمهم *** حقت عليك بناتق مذكار
وقال بعضهم: هو من التحريك فقال: ينتقي السير أي حَرَكني، يقال: ينتق برجله ويركض إذا حركت رجله على الدابة حين تعدو به. {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} الظلة ما أظلك {وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} نازل بهم {خُذُواْ} أي قلنا خذوا {مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ} فاعملوا به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وذلك حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة ويعملوا بها لتغليظها وكانت شريعة ثقيلة فرفع الله عز وجل جبلاً على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ.
وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها ليقعن عليكم. قال الحسن البصري: فلما نظروا للجبل خرَّ كل رجل ساجداً على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى على الجبل خوفاً من أن يسقط عليهم فلذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلاّ على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة.
نشر موسى الألواح فيها كتاب الله كتب بيده لم يبقَ على وجه الأرض جبل، ولا بحر ولا حجر إلاّ اهتزّ فليس اليوم يهودي على الأرض صغير ولا كبير يقرأ عليه التوراة إلاّ اهتزّ وتعفّر لها رأسه.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10